ولا يكاد يخطر ببال هؤلاء: الذنوب والمعاصي الأخرى التيتتعلق بالقلوب والأفئدة، والتي لا تدخل -فيما تراه الأبصار- أو تسمعهالآذان، أو تلمسه الأيدي، أو تشمه الأنوف، أو تتذوقه الألسنة.
معاصي الجوارح
في القسم الأول تقع معاصي العين من النظر إلى ما حرم الله من العورات، ومن النساء غير المحارم.
ومعاصي الأذن من الاستماع إلى ما حرم الله من آفات اللسان؛ فالمستمع شريك المتكلم.
ومعاصياللسان من الكلام بما حرم الله من الآفات التي بلغ بها الإمام الغزاليعشرين آفة؛ من الكذب والغيبة والنميمة والسخرية واليمين الفاجرة والوعدالكاذب والخوض في الباطل والكلام فيما لا يعني وقذف المحصنات الغافلاتالمؤمنات وشهادة الزور والنياحة واللعن والسب... إلخ.
ومعاصي اليدمن البطش والضرب بغير حق، والقتل، ومصافحة أعداء الله، وكتابة ما لا يجوزكتابته، مما يروج الباطل أو يشيع الفاحشة، وينشر الفساد.
ومعاصي الرجل من المشي إلى معصية الله، وإلى زيارة ظالم أو فاجر، ومن السفر في إثم وعدوان.
ومعاصي الفرج من الزنى وعمل قوم لوط، وإتيان امرأته في دبرها، أو في المحيض، وهو أذى كما قال الله.
ومعاصيالبطن من الأكل والشرب مما حرم الله، مثل أكل الخنزير، وشرب الخمر، وتعاطيالمخدرات، وتناول التبغ (التدخين) وأكل المال الحرام من الربا، أو الميسر،أو بيع المحرمات، أو الاحتكار، أو قبول الرشوة أو غيرها من وسائل أكل مالالناس بالباطل.
المعاصي المهلكة
وهذه الأعمال كلها محرمات ومعاص معلومة، وبعضها يعتبر من عظائم الآثام،وكبائر الذنوب، ولكنها جميعًا تدخل في المعاصي الظاهرة، أو معاصي الجوارح،أو ظاهر الإثم، والمسلم مأمور أن يجتنب ظاهر الإثم وباطنه جميعًا، كما قالتعالى: {وَذَرُوا ظَاهِرَ الإِثْمِ وَبَاطِنَهُ إِنَّ الَّذِينَيَكْسِبُونَ الإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِمَا كَانُوا يَقْتَرِفُونَ}..[الأنعام: 120].
بلإن المعاصي الباطنة أشد خطرًا من المعاصي الظاهرة، وبعبارة أخرى: معاصيالقلوب أشد خطرًا من معاصي الجوارح، كما أن طاعات القلوب أهم وأعظم منطاعات الجوارح؛ حتى إن أعمال الجوارح كلها لا تقبل إلا بعمل قلبي، وهوالنيِّة والإخلاص.
ونقصد بمعاصي القلوب ما كانت آلته القلب؛ مثل:الكبر، والعجب، والغرور، والرياء، والشح، وحب الدنيا، وحب المال والجاه،والحسد، والبغضاء، والغضب... ونحوها مما سماه الإمام الغزالي في [إحيائه]:المهلكات، أخذًا من الحديث الشريف: (ثلاث مهلكات: شح مطاع، وهوى متبع،وإعجاب المرء بنفسه).
وإنما اشتد خطر هذه المعاصي والذنوب لعدة أمور:أولها: أنها تتعلق بالقلب، والقلب هو حقيقةالإنسان؛ فليس الإنسان هو الغلاف الجسدي الطيني الذي يأكل ويشرب وينمو، بلهو الجوهرة التي تسكنه، والتي نسميها: القلب أو الروح أو الفؤاد، أو ماشئت من الأسماء. وفي هذا قال عليه الصلاة والسلام: (ألا إن في الجسد مضغة،إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله؛ ألا وهي القلب) (متفقعليه، عن النعمان بن بشير).
وقال: (إن الله لا ينظر إلى أجسامكم وصوركم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم) (رواه مسلم).
وجعلالقرآن أساس النجاة في الآخرة هو سلامة القلب، كما قال تعالى على لسانإبراهيم: {وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ * يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌوَلا بَنُونَ * إِلا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ}.. [الشعراء: 87– 89].
وسلامة القلب تعني: سلامته من الشرك جليه وخفيه، ومن النفاقأكبره وأصغره، ومن الآفات الأخرى التي تلوثه، من الكبر والحسد والحقد،وغيرها.
وقال ابن القيم: (سلامته من خمسة أشياء؛ من الشرك الذييناقض التوحيد، ومن البدعة التي تناقض السنة، ومن الشهوة التي تخالفالأمر، ومن الغفلة التي تناقض الذكر، ومن الهوى الذي يناقض التجريدوالإخلاص).
ثانيها: أن هذه الذنوب والآفات القلبيةهي التي تدفع إلى معاصي الجوارح؛ فكل هذه المعاصي الظاهرة إنما يدفعإليها: اتباع الهوى، أو حب الدنيا، أو الحسد، أو الكبر، أو حب المالوالثروة، أو حب الجاه والشهرة... أو غير ذلك.
حتى الكفر نفسه،كثيرًا ما يدفع إليه الحسد كما حدث لليهود؛ فقد قال تعالى: {وَدَّ كَثِيرٌمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْكُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَلَهُمُ الْحَقُّ}.. [البقرة: 109].
أو يدفع إليها الكبر والعلو فيالأرض، كما قال تعالى عن فرعون وملئه وموقفهم من آيات موسى عليه السلام:{وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّافَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ}.. [النمل: 14].
أوحب الدنيا وزينتها، كما رأينا ذلك في قصة هرقل ملك الروم، وكيف تبين لهصدق الرسول صلى الله عليه وسلم في دعوته، وصحة نبوته، ثم لما هاج عليهالقسس غلب حب ملكه على اتباع الحق؛ فباء بإثمه وإثم رعيته.
وإذانظرت إلى من يقتل نفسًا بغير حق وجدت وراءه دافعًا نفسيًا أو قلبيًا، منحقد أو غضب، أو حب الدنيا؛ حتى إن أول جريمة قتل في تاريخ البشرية كانسببها الحسد، وذلك في قصة ابني آدم {إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَمِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخَرِ قَالَ لأَقْتُلَنَّكَقَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ}.. [المائدة: 27].
إلى أن قال تعالى: {فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ}.. [المائدة: 30].
وكذلككل من ارتكب معصية ظاهرة من شهادة زور أو نميمة أو غيبة أو غيرها؛ فلا بدأن وراء تلك المعاصي شهوة نفسية، وفي هذا جاء الحديث: (إياكم والشح؛ فإنماهلك من كان قبلكم بالشح، أمرهم بالبخل فبخلوا، وأمرهم بالقطيعة فقطعوا،وأمرهم بالفجور ففجروا) (رَواهُ أبو داود وَالحَاكِمُ عن عبد الله بن عمر،كما في صحيح الجامع الصغير).
ثالثها: أن المعاصيالظاهرة التي سببها ضعف الإنسان وغفلته سرعان ما يتوب منها، بخلاف المعاصيالباطنة التي سببها فساد القلوب، وتمكن الشر منها؛ فقلما يتوب صاحبهامنها، ويرجع عنها. وهذا هو الفارق بين معصية آدم، ومعصية إبليس.
معصية آدم كانت معصية جارحة حين أكل من الشجرة، ومعصية إبليس كانت معصية قلب، حين أبى واستكبر، وكان من الكافرين.
معصية آدم كانت زلة عارضة نتيجة النسيان وضعف الإرادة، أما معصية إبليس فكانت غائرة متمكنة، ساكنة في أعماقه.
لهذاما أسرع ما أدرك آدم خطأه واعترف بزلته، وقرع باب ربه نادمًا تائبًا هووزوجته: {قَالا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْلَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ}.. [الأعراف: 23].
أماإبليس فاستمر في غلوائه، متمردًا على ربه، مجادلا بالباطل، حين قال له:{يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّأَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعَالِينَ * قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُخَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ}.. [سورة الآيات 75، 76].
ولهذاكانت عاقبة آدم: {فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَعَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ}.. [البقرة: 37].
وكانتعاقبة إبليس: {قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ * وَإِنَّعَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَى يَوْمِ الدِّينِ}.. [سورة الآيات 77- 78].
رابعًا:وهذه ثمرة للوجوه السابقة، وهو تشديد الشرع في الترهيب من معاصي القلوب،وآفات النفوس لشدة خطرها، كما في قوله عليه الصلاة والسلام: (لا يدخلالجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر) (رَواهُ مسلم عن ابن مسعود).
وقوله:(دب إليكم داء الأمم من قبلكم: الحسد والبغضاء، والبغضاء هي الحالقة، لاأقول تحلق الشعر، ولكن تحلق الدين) (رَواهُ البزار عن الزبير بإسناد جيدكما قال المنذري. انظر: المنتقى والهيثمي).
وقوله: (لا تغضب) وكررها ثلاثًا، لمن قال له: أوصني (رَواهُ البُخاريُّ عن أبي هريرة).
وقولهفي الحديث القدسي: (أنا أغنى الشركاء عن الشرك؛ فمن عمل عملا أشرك فيهغيري تركته وشركه) (رَواهُ مسلم عن أبي هُريرةَ وفي معناه عدة أحاديث ).
وقوله: (إياكم والشح؛ فإنه أهلك من كان قبلكم حملهم على أن سفكوا دماءهم، واستحلوا محارمهم) (رَواهُ مسلم عن جابر).
المصدر: موقع أسلام اون لاين








0 التعليقات:
إرسال تعليق